[«... أما بعد، فإني قد اطلعت على كثير من الجرائد والتواريخ العربية والافرنجية الموضوعة في النهضة المصرية المشهورة بالثورة العرابية. فلم أجد فيها ما يقرب من الحقيقة أو يشفي غليل روادها من أبناء الأمة. لذلك رأيت ان أكتب للناس كتاباً يهتدون به الى تلك الحقيقة، تمحيصاً للتاريخ من درن الأهواء الفاسدة والمفتريات الباطلة. وسميته «كشف الستار عن سر الأسرار في النهضة المصرية المشهورة بالثورة العرابية في عامي 1881 و 1882 الميلاديين»، قياماً بالواجب عليّ لأبناء وطني الأعزاء، وتصحيحاً للتاريخ، وخدمة عامة للانسانية وبنيها. وصدرته بنسبي وبتاريخ حياتي ليُعلم اني عربي شريف الأرومة، مصري الموطن والنشأة والتربية».
بهذه العبارات يفتح الزعيم الوطني المصري أحمد عرابي كتاب «مذكرات» وضعه
بعد عودته من منفاه في سيلان (سيلانكا الآن) حسب صحيفة الحياة، وبعد أن اطلع على كل ما كان كُتب عن ثورته فلم يجد فيه التزاماً بالحقيقة. ولكن هذا الكتاب لم ينشر إذ ظل حبيس الأدراج سبعين سنة، لتنشر منه اجزاء قليلة قبل نهاية العهد الملكي في مصر – بحسب ما تفيدنا سلسلة «كتاب الهلال» التي عادت وأصدرت في العام 1989، طبعة شعبية كاملة له. ودار الهلال كانت هي كما يبدو، المبادرة الى نشر المذكرات كاملة ما إن استتبت السلطة في مصر للعهد الجديد، إثر الثورة التي اندلعت في العام 1952. ذلك ان «العهد الجديد سعى الى انصاف عرابي والثورة التي تزعمها». وهكذا إذ نشرت المذكرات كاملة، رافقتها مقدمة كتبها في ذلك الحين اللواء محمد نجيب. ومع ذلك، على رغم الانصاف المشار اليه، لا يفوت طبعة «كتب الهلال» الأحدث أن تشير الى ان القارئ «يحس بأن من نشروا الكتاب عمدوا الى اختصار بعض التفاصيل التي ربما رؤي انها قد لا تهم القارئ العادي».
* مهما يكن، فإن المهم في الأمر ان الثورة العرابية، (التي انتفضت أقلام كثيرة، منذ اخفاقها، لكي تمعن في مهاجمتها، ومن بينها قلم الإمام محمد عبده، الذي كان – مع ذلك – من مفكري تلك الثورة)، صار لها مع «مذكرات عرابي» كتابها الرسمي، المتحدث من وجهة نظر صاحب العلاقة نفسه. ويبدو واضحاً من سياق هذا الكتاب ان عرابي لم يكن راغباً في التراجع عن موقفه من الثورة، كما انه كان قادراً على تبرير كل أحداثها، في الوقت الذي تحدث عن الأخطاء التي أوصلته وأوصلت جماعته الى الفشل.
* يبدأ أحمد عرابي هذه المذكرات بالحديث عن سيرته الذاتية وكيف دخل العسكرية، مفصلاً بعض الشيء بالنسبة الى مهمات عدة كانت أنيطت به ما إن تخرج والتحق فعلاً بالجيش، هو الذي لا يتردد في ان يقول ذات صفحة «... مما تقدم يُعلم اني دخلت العسكرية نفراً بسيطاً(...) وترقيت بسرعة غريبة جزاء ما بذلت من جهد عنيف حتى نلت رتبة قائمقام الآلاي». ولقد استغرقه الوصول الى تلك الرتبة «ستة أعوام إلا عشرين يوماً هي أيام سعدي وخلو فكري من الأكدار الدنيوية. فقد كنت فيها عزيزاً مكرماً عند حضرة محمد سعيد باشا (الذي) كثيراً ما كان يشركني معه في ترتيب المناورات الحربية وينيبني عنه في تلقينها الى أكابر الضباط بحضرته، وعلى مسمع منه رحمه الله تعالى. ولشدة اعجابه بي أهداني «تاريخ نابليون» باللغة العربية، طبع بيروت، وهو بادي الغيظ على ان تمكن الفرنساويون من التغلب على البلاد المصرية». ويفيدنا عرابي هنا ان محمد سعيد باشا (الخديوي) لم يستنكف عن وجوب تحريضه «على وجوب حفظ الوطن من طمع الأجانب». ويضيف عرابي هنا: «ولما طالعت ذلك الكتاب شعرت بحاجة بلادنا الى حكومة شورى دستورية، فكان ذلك سبباً لمطالعتي كثيراً من التواريخ العربية».
* والحال ان ارهاصات النزعة الوطنية هذه في وعي عرابي وشخصيته، هي التي – بحسب ما يقول على الأقل – ستكون شخصيته، وهي التي ستوصله الى حركته، هو الذي سيقول في خاتمة الكتاب وبعد أن يستعرض الغزوات التي تعرضت لها مصر في تاريخها: «... وهذه هي الأمم البائدة التي تغلبت على مصر قبل الاسلام فأبادها الله جلت قدرته، وقد اعتدت فرنسا على مصر وأتت اليها بقيادة نابليون بونابرت الأول بدعوى ان السلطان سليم محب لفرنسا وقد أذن له باحتلال مصر لقتال المماليك المتمردين على السلطان، وهي دعوى لا ظل لها في الحقيقة. ثم شاء الله ان يخرج هو وجيشه من مصر. وكذلك الانكليز دخلوا مصر بأسباب غير شريفة وخدعوا المصريين والدولة العثمانية وأوروبا، وحاربوا المصريين بدعوى تأييد الخديوي ورشوا العلية من رجال الدولة. ولكن الله يدافع عن عباده المؤمنين، وهو واقف من أعدائه بمجاز طريقهم».
* إذاً، بين بداية وعي عن طريق كتاب مهدى إليه من الخديوي سعيد، وخاتمة تتحدث عن أطماع الأجانب في مصر، حصر أحمد عرابي حديثه، ليقدم روايته الخاصة لما حدث، مورداً تفاصيل التفاصيل، وبالأسماء والأرقام، اضافة الى نشره الكثير من الوثائق والبرقيات والأوامر العسكرية، ما يشكل في حد ذاته صورة موثقة لأحداث كَثُُر اللغط من حولها. غير ان سياق الأحداث كما يرويه عرابي، يبدو – على الأقل في خلفياته ان لم يكن في مجرياته -، مختلفاً عن الصور الراسخة تاريخياً. ومن هذا مثلاً، ما يشير اليه الباحث المصري أحمد عبدالرحيم مصطفى الذي يقدم للطبعة الشعبية (طبعة «كتاب الهلال») من المذكرات بقوله ان عرابي يتطرق هنا «الى أوائل عهد الخديوي توفيق والى التطورات التي أدت الى تظاهرة قصر عابدين في أوائل العام 1881، وهي تظاهرة يذكر (عرابي) انها كانت تستهدف اقامة حكم نيابي... وهو أمر لا تؤيده المصادر الأخرى التي رجعنا اليها والتي تجمع على ان مطلب الضباط الوطنيين في أوائل عام 1881 لم تتعد التخلص من وزير الحربية الشركسي عثمان رفقي وإصلاح أوضاع الجيش، بما يحقق إنصاف المصريين من ضباط وجنود».
* واذا كان يمكن السجال من حول تظاهرة قصر عابدين الأولى، لا سيما بالنسبة الى خلفياتها المطلبية، فإن تظاهرة عابدين الثانية أيلول (سبتمبر) 1881 التي قامت بها وحدات الجيش المصري الموجودة في القاهرة، كانت أكثر وضوحاً، خصوصاً أنها «أظهرت عرابي بمظهر البطل والزعيم الشعبي»، ما اضطر الخديوي توفيق (وقبل وصول القوات الانكليزية للقضاء على الثورة نهائياً) الى قبول المطالب الوطنية، إذ وجد ان ليس له سند في الجيش. ولافت هنا ما يشير اليه عرابي في المذكرات من ان «الخديوي توفيق الذي أرغم على تقديم التنازلات للمطالب الوطنية، أرسل في تشرين الثاني (نوفمبر) 1881 مندوباً الى اسطنبول، لكي يبلغ السلطات العثمانية بأن الحركة الوطنية المصرية إنما كانت تستهدف اقامة خلافة عربية تضم كل الناطقين بالضاد فتشمل الحجاز واليمن والعراق ومصر والشام وطرابلس الغرب وغيرها». وهو كلام يصفه عرابي قائلاً: «... سبحانك اللهم... هذا بهتان عظيم!». * وأحمد عرابي هو طبعاً القائد العسكري المصري الذي قام بزعامة تلك الثورة، التي كانت – بحسب كثر من المؤرخين – أول حركة ثورية وطنية يقوم بها الجيش المصري من منطلقات اجتماعية وسياسية، ناهيك عن سماتها الوطنية. وكان ذلك في العامين 1881 و1882، ما انتهى يومها بمجيء القوات البريطانية لتحتل الأراضي المصرية وتهزم الثوار نافية معظمهم، ما جعل معادين للثورة – وبعضهم من الذين كانوا يقفون الى جانبها أول الأمر – يقولون انها ما قامت في الأصل إلا لكي تفتح الطريق أمام مجيء الانكليز... ولكن – طبعاً – ليس ثمة أثر يوحي بمثل هذه الأقاويل في ثنايا الكتاب الذي يُقرأ كوجهة نظر... ولكن أيضاً كرواية شيقة